الأرجنتين في 2023: انعطاف نحو اليمين!
بقلم: رشيد ماموني
ستظل سنة 2023 عالقة في ذاكرة الأرجنتينيين، حيث قرر البلد الجنوب أمريكي أن يولي وجهه شطر اليمين من خلال اختيار وافد جديد على عالم السياسة، الليبرالي المتطرف، خافيير ميلي ليصبح رئيسا للبلاد.
صوره ومقاطع الفيديو التي ظهر فيها، خلال المهرجانات الخطابية، وهو يلوح بمنشار كهربائي انتشرت كالنار في الهشيم في أصقاع الدنيا، الأمر الذي صدم البعض ولكنه نال رضا العديد من مواطنيه، الذين صوت 56 بالمائة منهم لصالحه.
الصورة تحمل في ثناياها الطريقة التي ينوي بها الرئيس الجديد إدارة شؤون البلاد. شعاره الأساسي يتلخص في “خفض” كل الإنفاق العام الذي يعتبره غير ضروري لتقليص العجز في الميزانية الذي يمنع الاقتصاد الأرجنتيني من الإقلاع.
منذ الأيام الأولى لولايته، كان صريحا ومباشرا وذهب رأسا إلى صلب المشكلة . فبعد أقل من عشرة أيام من تنصيبه، أصدر الرئيس الجديد “مرسوما ضخما” يتضمن نحو 300 قرار، بما في ذلك إلغاء العديد من القوانين المقيدة أو التي تعتبر مخالفة لمبادئ المقاولة الحرة والإرادة الحرة في المسائل الاقتصادية.
ولا بد من القول إن التحديات الاقتصادية التي تواجهها الأرجنتين هائلة. المؤشرات الرئيسية باللون الأحمر والبلاد على حافة التضخم المفرط الذي يعيد إلى الأذهان ذكريات مؤلمة يعود تاريخها إلى عام 2001.
ويقترب معدل التضخم الرسمي من 160 بالمائة على أساس سنوي، كما يقترب معدل الفقر بشكل خطير من 50 بالمائة، وخزائن البنك المركزي جفت ينابيعها والآفاق الاقتصادية قاتمة.
في نظر العديد من الأرجنتينيين والمراقبين الأجانب، يبدو أن العلاج “بالصدمة” الذي بدأه خافيير ميلي هو الطريقة الوحيدة الممكنة لإخراج البلاد من وضع لا تحسد عليه، والذي يتناقض مع ثرواتها وإمكاناتها وماضيها التليد كخامس قوة اقتصادية في العالم.. ذكرى تبدو اليوم بعيدة جدا.
وصول خافيير ميلي على رأس البلاد منعطف رئيسي في المشهد السياسي في الأرجنتين وفي جميع أنحاء منطقة أمريكا الجنوبية.
وفي بعض دول المنطقة، تم الترحيب بالرئيس الجديد باعتباره صوت ا بديل ا بعيد ا عن الواقع المألوف للسياسة في الأرجنتين، التي يصفها هو نفسه، حد التخمة بأنها ” الطبقة السياسية الطفيلية” المسؤولة، برأيه على تدهور اقتصاد البلاد.
و سرعان ما أحاط ميلي، الخبير الاقتصادي، نفسه بفريق يتقاسم وإياه أفكاره الليبرالية المتطرفة التي جذبت انتباه الناخبين. إن خطابه الصريح، واقتراحاته المتطرفة (مثل “نسف” البنك المركزي والدولرة) ورغبته في زعزعة المؤسسة السياسية، كلها عوامل تكلفت بالباقي.
ولا شك أن دعوته إلى إحداث تغيير عميق في الطريقة التي تتم بها ممارسة السياسة قد أقنعت غالبية الأرجنتينيين. لقد نجح في العزف على الوتر الحساس الذي كان تاريخيا يحظى بدعم غالبية الأرجنتينيين، ويتعلق الأمر بالأفكار الليبرالية للآباء المؤسسين للبلاد، ولا سيما مؤلف دستور عام 1853، خوان باوتيستا ألبيردي.
إن “برنامج الاستقرار” الذي رسم معالمه، والذي يتعين أن تتم المصادقة عليه من قبل الكونغرس قبل 31 دجنبر في جلسة استثنائية، سوف يؤدي إلى “تحرير” شديد للنظام الاقتصادي في الأرجنتين: انفصال الدولة عن المجال الاقتصادي، والتحرير المفرط، والتوقف الواضح لجميع أشغال البنية التحتية والتوظيف في الخدمة المدنية، ورفع جميع القيود المفروضة على الواردات والصادرات، وإنهاء القيود المفروضة على حيازة الأجانب للأراضي، وتمكين القطاع الخاص من القيام بكل ما يمكنه إنجازه مما يوجد ضمن دائرة اختصاص القطاع العام.
الأدوات التي يقترحها الرئيس الجديد لتنفيذ برنامجه بسرعة وبنجاح تتعلق بالبحث عن شراكات دولية لتحفيز النمو واستعادة ثقة المستثمرين.
غير أن هذا البرنامج الاقتصادي الجريء لا يرضي الجميع في البلاد، حيث انتفض خصومه من اليسار والقطاعات النقابية الكبرى ضد التقليص الجذري لدور الدولة. وانتقدوا “تحرير” الاقتصاد الذي من المؤكد أنه سيؤثر بشدة على الفئات الأكثر هشاشة مما يؤدي إلى تسارع التضخم وإلقاء الآلاف من الناس إلى الشوارع.
وفي الأسبوع الثاني من ولايته، واجه الرئيس الجديد أول مسيرة حاشدة ضد خططه. واحتجت العديد من النقابات، بدعم من المعارضة البرلمانية، على إجراءات التقشف الاقتصادي وهددت بالإضراب العام إذا لم تتراجع الحكومة عن خططها.
ومن الواضح أن “ظاهرة ميلي” هي انعكاس لسخط واسع النطاق عن الحكومة السابقة، التي أظهرت محدوديتها في حل المشاكل اليومية للناخبين، ومن هنا جاءت رغبة غالبية الأرجنتينيين في كسر الوضع الراهن سياسيا واقتصاديا.
عندما يتعلق الأمر بالانفصال عن الماضي، فقد أظهر ميلي بالفعل معالم التغييرات القادمة. ووعد بأنه “سيكون هناك المزيد من الإجراءات. وقال قبل حلول عطلة عيد الميلاد: “قريبا ستدركون ذلك”.
فعندما يدرك الأرجنتينيون أن “التسونامي” يقترب، فهل سيكون لديهم الوقت للقيام برد الفعل؟ و هل سيندمون ؟ أم أنهم سيؤيدون الانعطاف نحو اليمين الذي يفرضه الرئيس الجديد على بلادهم للخروج من حالة الركود؟.