خافيير ميلي وعلاج الصدمة
بقلم: رشيد ماموني
تشير جميع المؤشرات إلى أن الأرجنتين دخلت عهدا سياسيا جديدا يوم الأحد 10 دجنبر 2023، عهد ميلي بقواعده ورموزه وشخصياته.
وتم تنصيب الرئيس الجديد رسميا أمس الأحد بحضور عدد من نظرائه من المنطقة وعاهل إسبانيا فيليبي السادس. وبعد ذلك ألقى خطاب ا أمام حشود من المواطنين في ساحة الكونغرس، في وقت حرص فيه جميع من سبقوه من الرؤساء على إلقاء خطابات تنصيبهم أمام أعضاء البرلمان.
وأعلن ميلي على الفور عن نيته تنفيذ تدابير صادمة لإصلاح “أسوأ إرث” تلقاه رئيس أرجنتيني من سلفه على الإطلاق. ويمكن تلخيص هذا الإرث في كلمة واحدة تبلور الكابوس الذي يعيشه الأرجنتينيون منذ عدة عقود: التضخم الذي بلغ معدله الرسمي 142,7 بالمائة نهاية أكتوبر الماضي.
وشدد ميلي على أن القادم من الأيام سيكون صعبا، لكنه يعتقد أن الإجراءات الجذرية التي سيتم تنفيذها ضرورية وأن هناك “نورا يلوح في آخر النفق”.
“الانحطاط”، و”الانحدار”، و”حمام دم”، نعوت وصف بها ميلي الوضع الكارثي، على حد قوله، والذي سيتعين عليه تحمل مسؤوليته اقتصاديا وأمنيا .
وبالنسبة له، ” لا يوجد بديل للتقشف ولا يوجد بديل للعلاج بالصدمة”، رافضا أية مقاربة تدريجية في التعامل مع مشاكل البلاد.
واعترف الرئيس بأن الإجراءات الأولى التي سيعتمدها “سيكون لها تأثير سلبي على النشاط الاقتصادي والتشغيل وعدد الفقراء والمعوزين (…) وسيكون هناك ركود تضخمي”، على حد قوله، لكنه توقع أن ذلك هو السبيل الوحيد من أجل “البدء في إعادة إعمار الأرجنتين”.
في هذا الخطاب الذي استمر 30 دقيقة ورد ذكر إجراءات التقشف القاسية لخفض الإنفاق العام في ثلاث مناسبات. لكن الرئيس الجديد أوضح أن تأثير هذه السياسة التقشفية سيؤثر على خدمات الدولة وليس على القطاع الخاص، معتبرا أن تكلفة هذه الإجراءات ستكون بواقع خمس نقاط مئوية من الناتج المحلي الإجمالي.
ولا يتردد هذا الاقتصادي الليبرالي المتطرف الذي لم يخف أبد ا نفوره من الأساليب النقدية لحل المشكلات الاقتصادية الحقيقية، في توجيه الانتقادات لسياسة الإصدار النقدي التي اتبعتها الحكومة المنتهية ولايتها والتي وضعت البلاد “على حافة التضخم المفرط”.
ولحل المشكلة، يمنح ميلي نفسه سقفا زمنيا من “18 إلى 24 شهرا ” لعكس مسار التضخم.
في هذه المداخلة التي اعتبرت بمثابة خطاب تأسيسي، اقترح ميلي على الأرجنتينيين “عقد ا اجتماعي ا جديد ا” لبدء “عهد جديد في الأرجنتين”، تدعمه “الرغبة الأكيدة في التغيير” التي عبر عنها الأرجنتينيون في صناديق الاقتراع.
وتم انتخاب ميلي في 19 نونبر الماضي بنسبة 55.6 بالمائة من الأصوات، على حساب ممثل الأغلبية المنتهية ولايتها سيرخيو ماسا.
وبحسب ميلي يقدم هذا العقد الاجتماعي الجديد بلدا مختلفا، “حيث لا تدير فيه الدولة حياتنا، بل تسهر على حقوقنا (…) بلدا لا يتلقى فيه أولئك الذين يغلقون الشوارع، من خلال انتهاك حقوق مواطنيهم المساعدة من المجتمع”.
وفي ممارسة رمزية للغاية للسلطة، أصدر أول مرسوم رئاسي يحمل اسم خافيير ميلي، خفض فيه عدد الوزارات من 18 إلى 9 بهدف معلن يتمثل في تقليص حجم جهاز الدولة وتقليص ميزانيته.
وأكد الرئيس الجديد، الذي يصر على تطبيق وعوده الانتخابية سريعا، “سنتخذ كل القرارات اللازمة لحل المشكلة الناجمة عن مئة عام من التبذير السياسي، حتى لو كانت البداية صعبة” والعواقب مؤلمة.
وأعرب الرئيس السابق ماوريسيو ماكري (2015-2019) والحليف السياسي الرئيسي لخافيير ميلي عن دعمه للأفكار التي طرحها الأخير، وكتب على شبكة التواصل الاجتماعي “إكس” : “لن أغير حتى موضع فاصلة في خطابه بالكونغرس”.
كما أشار لويس ماخول، وهو أحد أكثر كتاب الأعمدة السياسية تأثيرا في البلاد، إلى أن ميلي ألقى “الخطاب الأكثر قسوة وصراحة ومصداقية الذي استمعت إليه منذ عام 1983″، تاريخ نهاية الدكتاتورية العسكرية وعودة الديمقراطية إلى الأرجنتين.
ومن جانب رجال الأعمال، أعرب ماركوس غالبيرين، الرئيس التنفيذي لشركة “ميركادوليبري” عملاق التجارة الإلكترونية في أمريكا اللاتينية (5.3 مليار دولار)، عن تمنياته للرئيس الجديد بالتوفيق في “إعادة الأرجنتين إلى المسار الصحيح” للعمل والتقدم وخلق الثروة التي تسمح لنا بالخروج من الانحطاط والفقر الذي أغرقتنا فيه الشعبوية”.
إن الصراحة التي ميزت الخطاب الافتتاحي لميلي جعلت منه خطاب ا تأسيسي ا من حيث الشكل والمضمون. إن الأرقام المخيفة والنعوت القاسية التي برزت في خطابه تنذر بتغيير جذري في الثقافة السياسية في الأرجنتين. فهل سيتمكن من الذهاب بعيدا في تطبيق برنامجه؟. الأكيد أن تطور ميزان القوى في الكونغرس وباروميتر صبر الأرجنتينيين في الشوارع سيكون لهما الكلمة الفصل