الأرجنتين تغير اتجاه البوصلة
بقلم: رشيد ماموني
اختار الناخبون الأرجنتينيون، الأحد، انتخاب خافيير ميلي، الليبرالي المتشدد، لرئاسة البلاد، وبالتالي فك الارتباط مع توجه يسار الوسط الذي كانت تمثله الحكومة المنتهية ولايتها.
هذا المنعطف ب 180 درجة إشارة قاطعة صادرة عن الأرجنتينيين (35 مليون ناخب) حيث منح أزيد 55.7 بالمائة منهم تفويضا واضح ا للرئيس المنتخب لإيجاد طريقة للخروج من الأزمة الاقتصادية التي أغرقت 40 بالمائة من ساكنة البلاد في دائرة الفقر وجعلت الأرجنتين أقرب إلى التضخم المفرط وأعادت إلى الأذهان الذكريات المؤلمة للأزمة الشهيرة عام 2001.
قبل مباشرة عملية التصويت ووضع البطاقة في صندوق الاقتراع، من المؤكد أن الناخبين الأرجنتينيين استحضروا الأرقام التي تحيل على الحصيلة التي خلفتها الحكومة المنتهية ولايتها، والتي وزير اقتصادها ليس سوى سيرخيو ماسا، المرشح الرئاسي الذي فشل أمام ميلي.
بالإضافة إلى الارتفاع المهول في معدلات الفقر ومعدل التضخم التي تضع الأرجنتين على رأس قائمة البلدان التي تشهد زيادات كبيرة في الأسعار، تواصل البلاد الاستدانة من صندوق النقد الدولي لسداد الديون السابقة. أما العملة الوطنية فتفقد قيمتها كل يوم، مما يدفع المدخرين إلى اللجوء إلى الدولار.
فقد تدهورت القدرة التنافسية للأرجنتين، ويكافح المستوردون للحصول على ترخيص لاستيراد المدخلات اللازمة لمصانعهم ويشكو المصدرون من الضرائب الباهظة التي يخضعون لها لمجرد تصدير منتجاتهم.
ووفقا للأكاديمي إستيبان دي غوري، فإن انتخاب ميلي يمثل “مسألة جديدة مطلقة سياسيا واجتماعيا” تعكس التحولات الاجتماعية التي شهدتها الأرجنتين خلال العشرين عام ا الماضية.
بالنسبة لعالم الاجتماع الشهير هذا، ظهر ميلي على أنه “وافد جديد على المشهد السياسي اكتسب شهرة في السنوات الأخيرة وتمكن من تجسيد انتظارات التغيير نحو المستقبل”.
وفي أول خطاب له بعد فوزه، أظهر ميلي، الوفي لأسلوبه المباشر والصريح، أنه يدرك حجم المسؤولية التي منحه إياها الأرجنتينيون. وأضاف: “الوضع في الأرجنتين حرج، ولا مجال للحلول التدريجية”.
تم ضبط الايقاع منذ اللحظات الأولى. ويعتزم الرئيس المنتخب أن يتولى زمام الأمور على وجه السرعة والوفاء بوعوده.
وللقيام بذلك، أعلن عن ثلاث خطوات أولية أساسية: تشكيل حكومة مسؤولة، واحترام الملكية الخاصة، وتحرير التجارة.
وفي الوقت الذي تجنب فيه ميلي ذكر مقترحيه الرئيسيين في خطاب الفوز، وهما على وجه التحديد إغلاق البنك المركزي و “دولرة” الاقتصاد، فإن دي غوري كان أكثر حذرا بشأن هذا الموضوع حيث يشكك في قدرة الحكومة المنتهية ولايتها على ضمان انتقال منظم و”الحفاظ على الاستقرار المحفوف بالمخاطر الذي ضمنته في الأسابيع الأخيرة”، وخاصة في ما يتعلق بسعر صرف الدولار والبيسو وأسعار المواد الغذائية.
اليوم “تبدأ إعادة إعمار الأرجنتين (…) لأن الانحطاط انتهى اليوم”، هكذا قال الرئيس المنتخب أمام آلاف من أنصاره الذين تجمعوا للاحتفال بفوزه وسط العاصمة بوينوس أيريس.
وهاجم بعنف “نموذج الإفقار” الذي طبقته، على حد قوله، حكومات يسار الوسط منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والذي “تظهر نتائجه أمام أعيننا”، على حد تعبيره.
ولمعالجة ذلك، وعد ميلي بالعودة إلى التراث الليبرالي “للآباء المؤسسين” للأرجنتين والذي يعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر.
غير أنه لدى إستيبان دي غوري شكوك حول ذلك، إذ يرى أن ميلي سيتعين عليه حل عقبة سياسية ضخمة. وفي السياق يشير الأكاديمي الأرجنتيني إلى أنه “ليس لديه أغلبية لا في مجلس الشيوخ ولا في مجلس النواب”، وبالتالي فهو مدعو إلى بناء أغلبية بدعم من أحزاب اليمين التي يتزعمها الرئيس السابق ماوريسيو ماكري.
وسيتعين على ميلي أيض ا إيجاد طريقة للخروج من خلافاته مع السلطة القضائية التي وصفت بالفعل اقتراحه بدولرة الاقتصاد بأنه “غير دستوري”، كما ذكر إستيبان دي غوري، الذي يعتقد أن الرئيس المنتخب “مطالب بالتفاوض” مع السلطات التشريعية والقضائية.
وفي تقدير دي غوري فإن “الحقيقة هي أن ميلي لديه مهمة تفاوضية معقدة للغاية. (…) أعتقد أنه سيضطر إلى تخفيف حدة خطابه وتأجيل بعض المقترحات، مثل الدولرة، على الأقل خلال الجزء الأول من حكومته، حتى يتمكن من التفاوض على إصلاحات كبيرة بدعم من المشرعين والقضاة”.
وبفضل تقدمه بفارق 11 نقطة على منافسه في الجولة الثانية والتفويض الواضح الذي حصل عليه من الناخبين الأرجنتينيين، لم يدع ميلي أي مجال للشك بشأن نواياه: “اليوم، وصلت طريقة ممارسة السياسة إلى نهايتها وبدأت طريقة أخرى”.
وفي نظر جزء كبير من المحللين، فإن هزيمة سيرخيو ماسا هي مرادفة لانحدار لا رجعة فيه للحركة البيرونية التي هيمنت على الحياة السياسية في البلاد لعقود من الزمن. فهل يكون انتصار ميلي بمثابة البداية لإعادة تشكيل المشهد السياسي في الأرجنتين مع وجود فاعل جديد يتموقع في أقصى يمين رقعة الشطرنج؟