إنحطاط السياسة وانحطاط اللغة

بوشعيب شكير
في عام 1946 نشر جورج أورويل أحد أهم مقالاته السياسية بعنوان “السياسة واللغة الانكليزية” ربط فيه بين انحطاط السياسة في زمنه وانحطاط اللغة، من خلال ابتذالها المقصود بهدف التضليل وخلق الضبابية. يقول أورويل إن “اللغة السياسية – ومع بعض الاختلافات، فهذا صحيح بالنسبة إلى جميع الأحزاب، من المحافظين إلى الفوضويين – مصممة لجعل الأكاذيب تبدو وكأنها حقائق، والجريمة محترمة، ولإعطاء مظهر الصلابة للرياح”.
وسياق التذكير بهذا المقال هو استمرار بعض الفاعلين السياسيين في إفساد وتحقير اللغة السياسية و إنتاج خطاب سياسي منحط وهو ما وقع مؤخرا حين لجأ كل من عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة السابق، ورشيد الطالبي العلمي رئيس مجلس النواب الحالي إلى استعمال ألفاظ وأوصاف وتشبيهات نابية لا تليق برجالات السياسة ، حيث شبه الطالبي بنكيران “بالذئب الشارف” فيما وصف بنكيران الطالبي العلمي “بالحمار”.
إنه لمن المؤسف حقا أن نجد – اليوم- غالبية النخب السياسية المغربية مازالت لا تفهم أن الخطاب السياسي هو شكل من أشكال العمل السياسي يصعب تطويره بدون توفر الفاعل السياسي على تنشئة وثقافة سياسية ديمقراطية، وتشبع بالأخلاق السياسية والتزام بالتواصل الديمقراطي ، وهذه أحد أسباب تدني الخطاب أو التواصل السياسي اليوم في زمن سياسي أقل ما يوصف بالزمن الرديء بكل المقاييس.
لكن مايقلقني ويجعلني أكثر توجسا هو أن الإنحطاط اللغوي في الخطاب ليس بظاهرة عابرة، بل أصبح يجسد نسقا فكريا وبنية مجتمعية قائمة، وبمعنى آخر إن انحطاط الخطاب أو التواصل السياسي هو انعكاس لشروط إنتاجه كما يؤكد ذلك الباحث بيير بورديو (P.BOURDIEU) وهو ما يعني أن شروط الإنتاج تظهر في تشكيلة الخطاب، أي في مادته اللغوية، وهو ما أكده أيضا ميشال فوكو Michel Foucault عند حديثه عن أهمية ضبط شروط الإنتاج وعلاقاتها بالخطاب. وعليه فالخطاب السياسي هو فضاء يعكس شروط إنتاجه من جهة، ويعكس مستوى منتجه والمؤسسات التي يمثلها من جهة أخرى .
وتشير العديد من الأبحاث والدراسات الى عد أخطر ما يهدد مستقبل المغرب، ويهدد إستقراره السياسي هو قتل العمل السياسي و تمييع مجاله التواصلي لأن ما وصل إليه التواصل السياسي من الرداءة والانحطاط غير مسبوق في التاريخ السياسي المغربي.خاصة أن الشعب المغربي ينتظر إجابات واضحة و ملموسة على مطالبه ومشاكله وليس خطابات الإلهاء و التنفيس والفرجوية و التواصل الشعبوي الماكر الذي جربه المغاربة وملوا منه .
و أخيرا نقول لهؤلاء القيادات السياسية : أنتم عابرون في زمن عابر ،ولتعلموا أن للثقافة السياسية المغربية حساسية بالغة تجاه اللغة السياسية ذات السمو اللغوي حتى في أشد لحظات الأزمات، فلن تكونوا أنتم مرجعية التواصل السياسي المغربي لأن له مرجعيات هي : محمد بن الحسن الوزاني ، وأبو بكر القادري وعلال الفاسي و عبد الله إبراهيم والمهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الكريم غلاب ، ومحمد عابد الجابري ومولاي امحمد بوستة و امحمد الخليفة وعبد الرفيع الجواهري ومحمد الساسي، وغيرهم حيث قمة الوعي بسلطة اللغة في مجال السياسة، وقمة المعرفة العميقة بضوابط الخطاب السياسي وقوانينه.. ارتقت اللغة السياسية في خطاباتهم الى قمة الأناقة اللغوية ، وتحولت معهم الى آلية لتهذيب الذوق اللغوي وفن إبداع المصطلحات والمفاهيم السياسية ولتوجيه الرأي العام حول قضايا الوطن.. وحذار من الاستمرار في تحقير اللغة السياسية. Debasement of political language و تلويث التواصل السياسي بعد تلويث العمل السياسي لأن التكلفة ستكون باهظة لكون التواصل السياسي هو صانع الحدث، والفاعل في السياسة والموجه للرأي العام والمهذب للذوق اللغوي العام.
أختتم مقالي هذا بجملة لها دلالات عميقة قالها منذ سنوات بول كوركورن paul corcoran مفادها أن “السياسة كلام وليس كل الكلام سياسة.